النكبة ثانية

القدس مهوى الأفئدة، وقِبلةُ الروح…تزهو كجنةٍ تحتضنُ عظمةَ التاريخ العربي والإسلامي، فلا وجود للكرامة العربية إلا بتألقها حرةً رغم حقد الحاقدين وتخاذل المتخاذلين.

"الواقعية" السياسية التي استلمت زمام القضية الفلسطينية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وبروز عالم القطب الواحد، اقترحت أن تقسم القضية الى مراحل، والمرحلة الى قضايا، ظناً منها أن الصهيونية سوف تكرمنا بشيء من التنازلات من هنا، وبعض التسهيلات من هناك، حتى يتم التوصل الى حلٍّ دبلوماسيٍ، يتبعه التوقيع على معاهدة سلام بين القاتل وضحيته.

واقتضت هذه الواقعية التركيزَ على قضية القدس الشريف، كي تصبح هي الشغل الشاغل للشارع العربي بما تحمله من بُعْدٍ عاطفيٍ حساس، تجعلها غرام كل العرب والمسلمين، وهذا لا يضيرهم شيئاً. إلا أن هذا الاستغلال لهذه القضية وبهذا الشكل، يضع جملةً من التساؤلات أمام الدبلوماسية العربية. خاصةً أنها وعلى أهميتها، استطاعت أن تطغى على قضية أُخرى لا تقلّ أهميةً هي حق العودة.

لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال اعتبار القضية الفلسطينية منتهيةً إذا تم تحرير القدس (حتى ولو بالكامل) وترك بقية القضايا عالقة تنتظر رحمةً من ربها. قد يستوقفني معترضٌ، لأن وصولنا الى هذه المرحلة يعتبرُ إنجازا، ولكل حادثة حديث، ولكنني أعتقد أن التشدد الإسرائيلي تجاه القدس، جاء ليجعل قضيتها سقفاً أعلى للطموحات العربية و الفلسطينية. أو حتى أن عقولهم الصهيونية ستبتكرُ لنا "قدساً" خاصّة بنا توجد في "أبوديس" أو غيرها من الأحياء العربية.

على أي حالٍ فإنّ الواقعية السياسية فشلت حتى في الوصول الى مرحلةِ ما بعد الكنتونات وما قبل البدء في التفاوض على القضايا النهائية. لأن المسألةَ ليست في القدرة على التفاوض والمناورة، بل في استجماع الطاقات العربية الضائعة، لجعلها ورقةَ ضغطٍ حقيقية، تطرح نفسَها بقوةٍ في وجوه دهاة السياسة في إسرائيل وأمريكا.

النكبة الأولى جاءت بعد تشريد الشعب العربي الفلسطيني من أرضه، التي لا تقل أهميةً عن القدس الشريف، والنكبة الثانية هي أن ترتفع طموحاتنا كعرب لتكونَ أقل من بضعة أحياء في القدس أو في إحدى ضواحيها.

كل شبرٍ في أرضنا المحتلة، له قداسته وأهميته… وكل إنسان شرده الصهاينة منها بالقتل والمجازر، يعدُ ركناً من أركان القضية، ويشكلُ مسألةً يجب حلها بشكلٍ مرضٍ، وهذا يبين مدى تعقيد القضية وعدم مشروعية حصرها في أحد الجوانب دون الآخر. فإن لم نستطع (بعد تتبعنا للواقعية السياسية) أن نسترد حيفا ويافا من أيدي المغتصبين، فإنه يجب أن تستردنا هي الى أحضانها، لأنها كالأم الرؤوم لكل من رحل عنها أيام المجازر الكبرى، ومن منا لا "يحن الى خبز أمه".

المطلوب دائما أن نحافظ على كرامتنا كعرب، وأن نصل الى حلول لأكثر القضايا تعقيداً قبل غيرها لأنها تمس كلّ فرد منا تشرّب المأساة والتشرد… وكل تأخير في إعادته الى وطنه يعتبر كارثة إنسانية. لا يمكن اعتبار التفاوض على كيفية التفاوض مسيرةً سياسية سوية، ولنضع نصب عيوننا أننا أصحابُ حق، لن يستطيع شارونُ أن يفرض رأيه علينا ما دمنا نؤرقه بانتفاضتنا المباركة.

نحن نشكك في قدرة العرب في هذا الزمان على الوصول الى إحقاق الحقوق، وعودة اللاجئين، وإزالة المستوطنات، واسترداد الثروات المائية المسلوبة، واسترجاع القدس. إذاً فالاستمرار في المسيرة السياسية وعلى هذا النحو وبهذا الضعف والاستهانة بالدماء المُراقة يوماً بعد يوم، سيكون له أثر عكسي، وسنلهث أياماً وأسابيع لاستجداء اللقاءات(العقيمة) من هنا وهناك، هذا عدا عن المبادرات المرفوضة والمزيفة.

نحن أبعد ما نكون عن يقْظَةِ العز المرجوّة. فأنا لا أعرف أين تكمن الصعوبة في أن نجعل سياستنا أكثر حكمة. وإن لم نستطع أن نفهم كيف يكون هذا، فلننظر الى عدونا الذي يفاوضنا بيد، ويقتلنا باليد الأخرى… ولا ينسى أن يبني لنفسه أكبر قوةٍ عسكريةٍ في المنطقة.

من أين سنجلب الهيبةَ لأنفسنا، إذا كنا تأكدنا من تدمير قوانا الذاتية، وذخيرتنا القومية بأيدينا الآثمة. ثم اتجهنا للترنح في مسيرة سياسية هدفها التفاوض من أجل التفاوض؟